قصة تأسيس مبادرة سيكم داخل الصحراء المصريةتبدأبخيمة وجرار وآلة بيانو.
عاد الدكتور إبراهيم أبو العيش، مؤسس مبادرة سيكم (SEKEM) للتنمية في عام 1977 إلى مصر بعد 20 عاما من العمل خارج البلاد في مجال علم الكيمياء والصيدلة.
وكانت مصر تواجه معضلة في ذلك الوقت. تمثلت هذه المعضلة في توفير الغذاء للسكان الذين يتزايدون بمعدل سريع، لكن قطاعها الزراعي كان غير متطور بالقدر الكافي، حيث فُقدت مساحات من الأراضي الزراعية في الصحراء، مع إفراط في استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية أدى إلى تسمم التربة.
وهكذا، أقام الدكتور أبو العيش خيمة في منطقة صحراوية لم يمسسها أحد شمال شرق القاهرة، وأسس مبادرة سيكم. وسرعان ما أصبحت المنظمة، التي سميت على اسم رمز هيروغليفي يعني ’’حيوية الشمس‘‘، بيئة خصبة للزراعة الحيوية الديناميكية، وهي شكل من أشكال الزراعة العضوية التي تؤكد على الانسجام بين الطبيعة والتنمية البشرية والقيم الروحانية.
كانت أولى الأشياء التي استثمر فيها دكتور أبو العيش في الصحراء عبارة عن جرار- وبيانو الذي أذهل صغار المزارعين المحليين.
ويقول ابنه حلمي، المدير التنفيذي لشركة سيكم القابضة، إن البيانو يرمز إلى أهمية ’’العواطف والمشاعر‘‘ في إعادة ربط البشرية بالطبيعة. وقد قاد الاثنان شركة سيكم معا حتى وفاة دكتور إبراهيم في عام 2017.
ويقول حلمي أبو العيش مبتسما خلال مقابلة مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة: ’’بالنسبة لوالدي، كان الأمر دائما يدور حول توطيد علاقة مع الصحراء حيث يمكنك تكوين شيء ينبض بالحياة من لا شيء تقريبا‘‘.
والآن، بعد مرور 47 عاما على تأسيسها، ازدهرت سيكم وأصبحت منظمة إنمائية متعددة الأوجه تساعد في مكافحة التصحر، وبناء نظم غذائية قادرة على الصمود، ومعالجة الفقر في المناطق الريفية، ومعالجة أزمة المناخ. وبحلول نهاية العام، ستكون سيكم قد ساعدت 15,000 مزارع على التحول إلى الزراعة الحيوية منذ عام 2022، وتوسيع نطاق هذه الممارسة عبر حوالي 19,000 هكتار من الأراضي الزراعية.
ويقول الخبراء إن قيام شركة سيكم باستصلاح الأراضي المتدهورة والصحاري وتحويلها إلى نظم إيكولوجية منتجة وقائمة بوظائفها يوفر فرصا هائلة للتعافي من المخاطر التي تتعرض لها النظم الإيكولوجية. فعلى الصعيد العالمي، يتم فقدان 12 مليون هكتار من الأراضي القادرة على إنتاج 20 مليون طن من الحبوب بسبب الجفاف والتصحر كل عام.
وجدير بالذكر أن شركة سيكم فازت بجائزة أبطال الأرض لعام 2024 - وهو أعلى وسام تمنحه الأمم المتحدة في مجال البيئة - في فئة الرؤية الريادية، وذلك تقديرا لجهودها في معالجة تدهور الأراضي والتصحر مع تعزيز التنمية المستدامة. وتعد سيكم واحدة من ستة فائزين بجائزة أبطال الأرض لمجموعة عام 2024.
وتقول إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: ’’في كثير من الأحيان، تكون الطريقة التي تنتج بها البشرية الغذاء ببساطة غير مستدامة. وهذا يهدد العالم الطبيعي وقدرتنا على توفير الغذاء لأنفسنا على المدى الطويل. وتُظهِر سيكم أنه من الممكن جعل النظم الغذائية تعمل لصالح الناس والكوكب، وهو أمر حيوي للتغلب على الأزمات البيئية مثل التصحر واستعادة توازن البشرية مع الطبيعة‘‘.
زرع البذور
كانت الزراعة على مدى آلاف السنين تمثل حجر الزاوية في اقتصاد مصر. فهي توفر سبل العيش لنحو 55 في المائة من سكان مصر، ولكن عقودًا من زحف الصحاري وتدهور الأراضي والاكتظاظ السكاني جعلت ضمان الأمن الغذائي يمثل تحديًا، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة .
في سباق لتلبية الطلب المتزايد على توفير الغذاء ودعم السكان الذين يعيش أكثر من ربعهم في فقر، اعتمدت مصر لفترة طويلة على استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية. وكثيراً ما يُنظَر إلى هذه الأسمدة والمبيدات باعتبارها أرخص وسيلة لتعزيز إنتاجية المحاصيل الزراعية. ولكن عند الإفراط في استخدامها، فإنها قد تتسرب إلى المياه الجوفية وتضعف بنية التربة، وتؤدي إلى تآكل الأرض وفي نهاية المطاف تفسح المجال للصحراء.
وتتجنب سيكم استخدام الأسمدة الكيميائية. فهي تعمل مع المزارعين في مختلف أنحاء مصر لضمان وجود مجموعة واسعة من النباتات والحيوانات ــ بدءا من النحل ووصولا إلى البوم ــ في المزارع، وهو ما يؤدي في الأساس إلى إنشاء نظم إيكولوجية مصغرة. وتُمجّد سيكم فوائد بقايا النباتات وروث الحيوانات لتعزيز إنتاجية المحاصيل الزراعية. وتحافظ هذه الدورة المغلقة على سلامة التربة وتساعد في جعل المزارع أكثر قدرة على الصمود في مواجهة التصحر.
ويقول الخبراء إن الزراعة الحيوية الديناميكية يمكن أن توفر أيضا منافع مطلوبة بشدة في مكافحة أزمة المناخ. وتعد التربة السليمة من بين أكثر الوسائل فعالية لتخزين الكربون المسبب لارتفاع درجة حرارة الكوكب. كما تعد التربة موطنًا لأكثر من 25 في المائة من التنوع البيولوجي العالمي وتدعم معظم أشكال الحياة على سطح الأرض، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة .
حصاد الأمل
تقول شركة سيكم إنها تهدف إلى مساعدة 40,000 مزارع على التحول إلى الزراعة الحيوية بحلول نهاية عام 2025 بالشراكة مع الجمعية المصرية للزراعة الحيوية. وبحلول عام 2028، يتمثل الهدف في الوصول إلى 250,000 مزارع ممن يعملون في مزارع تمتد على مساحة 1.6 مليون فدان.
ويقول أبو العيش إن هذا السيناريو بعيد كل البعد عن الأيام الأولى منذ إنشاء شركة سيكم، عندما كانت الزراعة الحيوية تمثل مفهوما لم يخضع للاختبار في أفريقيا.
ويقول أبو العيش: ’’أراد والدي أن يثبت أنه من الممكن إعادة التفكير في الاقتصاد والزراعة. وقد أطلق على رؤيته اسم ’’اقتصاد الحب‘‘.
ومن بين المساعي الأخرى التي تبذلها شركة سيكم جهودها في مجال استصلاح 1000 هكتار من الصحراء وإنشاء مجتمع محلي مكتفٍ ذاتيا. ونظرا لكون 96 في المائة من أراضي مصر صحراء، فإن برنامج ’’خضرنة الصحراء‘‘ يهدف إلى توفير الغذاء لعشرات الآلاف من الناس إضافة إلى عزل الكربون.
فمنذ إقامة خيمة في صحراء لم تمسسها يد بشر، تطورت سيكم لتصبح منظمة رائدة في مجال التنمية. فهي تدير مدارس ومراكز تدريب وجامعة، وتتولى مهام إعداد المزارعين والشباب لمكافحة تدهور الأراضي والتصحر.
وتبيع شركة سيكم المنتجات العضوية على الصعيدين المحلي والعالمي، وتتيح شراكاتها مع البنوك الأوروبية والتحالفات الدولية مواصلة الاستثمار في أساليب الزراعة الحيوية في مصر. وتشمل محفظة المبادرة المتنوعة شركات متخصصة في مجال الأدوية الطبيعية والمنسوجات وغير ذلك.
وبعد رحيل دكتور إبراهيم أبو العيش في عام 2017 – العام الذي يوافق الذكرى الأربعين لتأسيس سيكم – وضع حلمي أبو العيش والمنظمة خطة لتوجيه عمل سيكم حتى عام 2057. وتتضمن هذه الخطة توسيع نطاق الزراعة الحيوية لتشمل 7 ملايين مزارع في مصر.
ويقول أبو العيش: لن نستطيع تحقيق رؤيتنا الأصلية، إلا من خلال الوصول إليهم. أخبرنا الكثير من الناس أن ما نقوم به يعد مهمة مستحيلة. لكننا متخصصون في إنجاز المهام المستحيلة. نحن نعشق المهام المستحيلة‘‘.